فصل: تفسير الآيات رقم (23- 26)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 26‏]‏

‏{‏وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ‏(‏23‏)‏ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ‏(‏24‏)‏ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله‏}‏ قد تقدَّم أن هذه الآية عتاب من اللَّه تعالى لنبيِّه حيث لم يستثْنِ، والتقدير‏:‏ إِلا أنْ تقولَ إِلاَّ أنْ يشاء اللَّه أو إِلاَّ أنْ تقولَ‏:‏ إِن شاء اللَّه، والمعنى‏:‏ إِلا أن تذكُرَ مشيئَةَ اللَّهِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏ قال ابن عباس والحسن معناه‏:‏ إِلاشارة به إلى الاستثناء، أي‏:‏ ولتستثْنِ بعد مدَّة إذا نسيت، أولاً لِتَخْرُجَ من جُمْلة من لم يعلِّق فعله بمشيئة اللَّه، وقال عكرمة‏:‏ واذكر ربَّك إِذا غَضِبْتَ، وعبارة الواحِدِيِّ‏:‏ ‏{‏واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ‏}‏، أي‏:‏ إِذا نسيتَ الاستثناء بمشيئة اللَّه، فاذكره وقُلْه إِذا تذكَّرت‏.‏ ا ه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الجمهورُ أنَّ هذا دعاءٌ مأمورٌ به، والمعنى‏:‏ عسى أنْ يرشدني ربِّي فيما أستقبل من أمري، والآية خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهي بعدُ تعمُّ جميع أمته‏.‏

وقال الواحديُّ‏:‏ ‏{‏وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ‏}‏، أي‏:‏ يعطيني ربي الآياتِ من الدلالاتِ على النبوَّة ما يكون أقرَبَ في الرشد، وأدلَّ من قصَّة أصحاب الكهف، ثم فعل اللَّه له ذلك حيثُ آتاه علْم غَيْوب المرسَلِينَ وخَبَرَهم‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال قتادة وغيره‏:‏ الآية حكايةٌ عن بني إسرائيلُ، أنهم قالوا ذلك؛ واحتجوا بقراءة ابن مسعود وفي مُصِحفه‏:‏ «وقَالُوا لَبِثُوا في كَهْفِهِمْ»، ثم أمر اللَّه نبيَّه بأن يردَّ العلْم إِليه؛ ردَّا على مقالهم وتفنيداً لهم، وقال المحقِّقون‏:‏ بل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية خبرٌ من اللَّه تعالى عن مُدَّة لبثهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ‏}‏، أي‏:‏ فليزل اختلافكم أيها المخرِّصون، وظاهر قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وازدادوا تِسْعًا‏}‏ أنها أعوام‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ‏}‏، أي‏:‏ ما أَسْمَعَهُ سبحانه، وما أبْصَرَهُ، قال قتادة‏:‏ لا أحَدَ أبْصَرُ مِنَ اللَّه، ولا أسْمَعَ‏.‏

قال * ع * وهذه عبارةٌ عن الإِدراك، ويحتملُ أن يكون المعنى‏:‏ أبْصِرْ به أي‏:‏ بوحيه وإِرشاده، هُدَاكَ، وحُجَجَكَ، والحَقَّ من الأمور، وأسْمِعْ به العَالَم، فتكون اللفظتان أمرين لا على وجْه التعجُّب‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ‏}‏‏:‏ الضمير في ‏{‏لَهُمْ‏}‏ يحتمل أنْ يرجع إِلى أهْلِ الكهْفِ، ويحتمل أنَّ يرجع إلى معاصري النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الكُفَّار، ويكون في الآية تهديدٌ لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏27‏)‏ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ‏}‏، أي‏:‏ اتبع، وقيل‏:‏ اسْرُدْ بتلاوتك ما أوحِيَ إليك من كتاب ربِك، لا نَقْضَ في قوله، ولا مُبَدِّلَ لكلماته، وليس لك سواه جَانِبٌ تميلُ إِليه، وتستند، و«المُلَتَحد»الجانب الذي يَمَالُ إِليه؛ ومنه اللَّحْد‏.‏

* ت * قال النوويُّ‏:‏ يستحبُّ لتالي القرآن إذا كان منفرداً أنْ يكون خَتْمُهُ في الصَّلاة، ويستحبُّ أن يكون ختمه أوَل الليلِ أو أول النهار، ورُوِّينا في مسند الإمام المُجْمَعِ على حْفظِهِ وجلالته وإِتقانه وبَرَاعته أبي محمَّدٍ الدَّارِمِيِّ رحمه اللَّه تعالى، عن سَعْدِ بنِ أبي وقَّاص رَضِيَ اللَّه عنه قَالَ‏:‏ إِذَا وَافَقَ خَتْمُ القُرْآنِ أوَّلَ اللَّيّلِ، صَلَّتَ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَإِنْ وَافَقَ خَتْمُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ حَتَّى يُمْسِي‏.‏ قال الدارمي‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ وعن طلحة بن مُطَرِّفٍ، قال‏:‏ مَنْ خَتَمَ القُرْآنَ أَيَّةَ سَاعَةٍ كَانَتْ مِنَ النَّهَار، صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئكَةُ حَتَّى يُمْسِيَ، وأيَّةَ سَاعَةٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلاِئَكَةُ حَتَّى يُصْبِحَ، وعن مجاهد نحوه انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ تقدَّم تفسيرها‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ‏}‏، أي‏:‏ لا تتجاوزْ عنهم إِلى أبناء الدنيا، وقرأ الجمهور‏:‏ «مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ» بنصب الباء على معنى جَعَلْنَاهُ غافلاً، «والفُرُط»‏:‏ يحتملُ أن يكون بمعنى التفريط، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف، وقد فسَّره المتأوِّلون بالعبارتين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ‏}‏ المعنى‏:‏ وقل لهم يا محمَّد هذا القرآن هو الحقُّ، * ت *‏:‏ وقد ذم اللَّه تعالى الغافلين عَنْ ذكره والمُعْرِضين عن آياته في غيرما آية من كتابه، فيجبُ الحذر مما وقَع فيه أولئك، ولقد أحسن العارفُ في قوله‏:‏ غَفْلَةُ ساعةٍ عَنْ ربِّكَ مُكَدِّرة لمرآة قلبكَ، فكيف بَغْفلتكَ جميعَ عُمُرك‏.‏ وقد روي أبو هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ‏:‏ ‏"‏ مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِساً لَمْ يَذْكُروا اللَّهَ فِيه ولَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهمْ، إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةٌ، فإنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وإِنْ شَاءَ غَفَر لَهُمْ ‏"‏ رواه أبو داود والترمذيُّ والنسائي والحاكم وابنُ حِبَّان في «صحيحهما» وهذا لفظ الترمذيِّ، وقال‏:‏ حديثٌ حَسَن، وقال الحاكمُ‏:‏ صحيحٌ على شرط مسلم، «والتِّرَةُ»- بكسر التاء المُثَنَّاة من فوقُ وتخفيفِ الراء- النقْصُ، وقيل‏:‏ التبعة، ولفظ ابن حِبَّان‏:‏ ‏"‏ إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، وإِنْ دَخَلَوا الجَنَّةَ ‏"‏ انتهى من «السلاح»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ توعُّد وتهديد، أي‏:‏ فليختر كلُّ امرئ لنفسه ما يجدُه غداً عند اللَّه عزَّ وجلَّ، وقال الداووديُّ، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ‏}‏ يقول‏:‏ من شاء اللَّه له الإِيمان، آمن، ومن شاء له الكفر، كفر، هو كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّ العالمين‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 29‏]‏ وقال غيره‏:‏ هو كقوله‏:‏ ‏{‏اعملوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ بمعنى الوعيد، والقولان معاً صحيحان‏.‏ انتهى و‏{‏أَعْتَدْنَا‏}‏ مأخوذٌ من العَتَاد، وهو الشيءُ المُعَدُّ الحاضر، «والسُّرادق» هو الجدار المحيطُ كالحُجْرة التي تدورُ وتحيطُ بالفسْطَاط، قد تكون من نَوْع الفُسْطَاط أديماً أو ثوباً أو نحوه، وقال الزَّجَّاج‏:‏ «السُّرَادِق»‏:‏ كل ما أحاط بشيء، واختلف في سُرَادِقِ النار، فقال ابن عباس‏:‏ سرادقها حائطٌ من نارٍ، وقالت فرقة‏:‏ سرادقها دُخَانٌ يحيطُ بالكُفَّار، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثلاث شُعَبٍ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 30‏]‏ وقيل غير هذا، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من طريق أبي سعيد الخدريِّ؛ أنه قَالَ ‏"‏ سُرَادِقُ النَّارِ أربَعَةُ جُدُر كِثَفُ عَرْض كُلِّ جَدارٍ مَسِيرَةُ أرْبَعيِنَ سَنَةً ‏"‏ ‏"‏ و«المهل» قال أبو سعيد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو درديُّ الزيتِ، إِذا انتهى حَرُّه ‏"‏، وقال أبو سعيد وغيره‏:‏ هو كلُّ ما أذيَب من ذهبٍ أو فضة، وقالت فرقةٌ‏:‏ «المُهْل» هو الصديدُ والدمُ إِذا اختلطا، ومنه قول أبي بكر رضي اللَّه عنه في الكَفَن‏:‏ إِنما هو للمهلة، يريدُ لما يسيلُ من المَيِّت في قبره، ويقوى هذا بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ويسقى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏ابراهيم‏:‏ 16‏]‏ و«المُرتفق»‏:‏ الشيء الذي يطلب رفقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ‏(‏30‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏31‏)‏ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ‏(‏32‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً‏}‏ تقدَّم تفسير نظيره، واللَّه الموفِّق بفضله، و‏{‏أَسَاوِرَ‏}‏ جمع «أسْوَار»، وهي ما كان من الحُلِيِّ في الذراع، وقيل‏:‏ «أَسَاور» جَمْعُ أَسْوِرَة، وأَسْوِرَة جمع أسْوَارٍ، و«السُّنْدس»‏:‏ رقيق الدِّيباج «والإستبرق» ما غلظ منه، قيل‏:‏ إِستبرقٌ من البَرِيقِ، و‏{‏الأرائك‏}‏ جمع أريكة، وهي السريرُ في الحجالِ، والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وَحَسُنَتْ‏}‏ للجنَّات، وحكى النَّقَّاش عن أبي عمران الجَوْنيِّ، أنه قالَ‏:‏ «الإِستبرقُ»‏:‏ الحريرُ المنسوجُ بالذهب‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واضرب لَهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية الضمير في ‏{‏لَهُم‏}‏ عائدٌ على الطائفة المتجبِّرة التي أرادَتْ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ يطرد فقراء المؤمنين، فالمثل مضروبٌ للطائفتين، إذ الرجل الكافر صاحِبُ الجنتين هو بإزاء متجبِّري قريشٍ، أو بني تميمٍ؛ على الخلاف في ذلك، والرجُلُ المؤمنُ المُقِرُّ بالربوبية هو بإزاء فقراءِ المؤمنين، «وخففنا» بمعنى جعلنا ذلك لَهُمَا منْ كُلِّ جهة، وظاهر هذا المَثَل أنَّه بأمْرٍ وَقَعَ في الوجودِ، وعلى ذلك فَسَّره أكثر المتأوِّلين، فروي في ذلك أنهما كانا أخَويْنِ من بني إسرائيل، ورثا أربعَةَ آلاف دينارٍ، فصنع أحدهما بماله ما ذكر، واشترى عبيداً، وتزوَّج، وأثْرى، وأنفق الأخَرُ ماله في طاعة اللَّه عزَّ وجلَّ حتى افتقَرَ، والتقيا، فافتخر الغنيُّ، ووبَّخ المؤمن، فجرَتْ بينهما هذه المحاورَةُ، وروي أنهما كانا شريكَيْن حَدَّادَيْنِ كسبا مالاً كثيراً، وصَنَعَا نحو ما رُوِيَ في أمر الأَخَوَيْنِ، فكان من أمرهما ما قَصَّ اللَّه في كتابه‏.‏

قال السهَيْلِيُّ‏:‏ وذكر أن هذَيْن الرجلَيْن هما المذكوران في «والصافات» في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَِقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ المصدقين‏}‏ إِلى قوله ‏{‏فاطلع فَرَءَاهُ فِي سَوَاءِ الجحيم‏}‏ وإِلى قوله‏:‏ ‏{‏لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 51-61‏]‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ‏(‏33‏)‏ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا‏}‏ الأَكُلُ‏:‏ ثمرها الذي يؤكل ‏{‏وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا‏}‏ أي لم تنقص عن العُرُفِ الأتَمِّ الذي يشبه فيها، ومنه قولُ الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَيَظْلِمني مَالي كَذَا وَلَوى يَدي *** لَوَى يَدَهُ اللَّهُ الَّذي هُوَ غَالِبُهْ

وقرأ الجمهور‏:‏ «ثُمُرٌ» و«بِثُمُرِهِ» ‏[‏الكهف‏:‏ 42‏]‏- بضم الثاء والميم- جمع «ثِمَارٍ»، وقرأ أبو عمرو- بسكون الميم- فيهما، واختلف المتأوِّلون في «الثُّمُر»- بضم الثاء والميم- فقال ابن عباس وغيره‏:‏ «الثُّمُر»‏:‏ جميع المال من الذهَبِ والفَّضة والحيوانِ وغير ذلك، وقال ابن زيد‏:‏ هي الأصول، و«المحاورة»‏:‏ مراجعةُ القولِ، وهو من «حَارَ يَحُورُ»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً‏}‏‏:‏ هذه المقالة بإزاء مقالة متجبِّري قريْشٍ، أو بني تميمٍ، على ما تقدَّم في «سورة الأنعام»‏.‏ * ت * وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَعَزُّ نَفَراً‏}‏ يضَعِّف قول من قال‏:‏ «إِنهما أخوانِ» فتأمَّله، واللَّه أعلم بما صحَّ من ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ‏(‏35‏)‏ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ‏(‏36‏)‏ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أفْرَد الجنة من حيثُ الوجودُ كذلك إِذ لا يدخلهما معاً في وقت واحدٍ، وظلمه لنفسه هو كُفْره وعقائدُهُ الفاسدة في الشَّكِّ في البعث، وفي شكِّه في حدوث العالم، إن كانت إِشارته ب ‏{‏هذه‏}‏ إلى الهيئة من السموات والأرض وأنواعِ المخلوقات، وإِن كانت إِشارته إِلى جنته فقط، فإِنما الكلام تساخُفٌ واغترارٌ مفْرِط، وقلَّة تحصيلٍ، كأنه من شدَّة العُجْب بها والسرور، أفرط في وصفها بهذا القول، ثم قاس أيضاً الآخرة على الدنْيَا وظنَّ أنه لم يُمْلَ له في دنياه إِلا لكرامةٍ يستوجبها في نَفْسه، فقال‏:‏ فإِن كان ثَمَّ رُجوعٌ، فستكون حالي كذاوكذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ‏}‏ يعني المؤمن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ‏}‏ إِشارةٌ إلى آدم عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 41‏]‏

‏{‏لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏38‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏39‏)‏ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ‏(‏40‏)‏ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لكنا هُوَ الله رَبِّي‏}‏ معناه‏:‏ لكن أنا أقول هو اللَّه ربِّي، وروى هارون عن أبي عمرو «لَكِنَّهُ هُوَ اللَّهُ رُبِّي»، وباقي الآية بيِّن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ وصيَّةٌ من المؤمن للكافر، ‏{‏وَلَوْلاَ‏}‏‏:‏ تحضيض بمعنى «هلا»، و‏{‏مَا‏}‏ تحتمل أن تكون بمعنى «الذي» بتقدير‏:‏ الذي شاء الله كائنٌ، وفي ‏{‏شَاءَ‏}‏ ضميرٌ عائد على «ما»، ويحتمل أن تكون شرطيةً بتقدير‏:‏ ما شَاءَ اللَّهُ كَانَ، أو خبرَ مبتدأ محذوفٍ، تقديره‏:‏ هو ما شاء اللَّهُ، أو الأمر ما شاء اللَّه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله‏}‏‏:‏ تسليمٌ، وضدٌّ لقول الكافِرِ‏:‏ ‏{‏مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 35‏]‏، وفي الحديثِ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ، إِذَا قَالَهَا العَبْدُ، قَالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ‏:‏ «أَسْلَمَ عَبْدِيَ واستسلم ‏"‏، قال النوويُّ‏:‏ ورُوِّينا في «سنن أبي داود والترمذيِّ والنسائي» وغيرهما، عن أنس قال‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَنْ قَالَ يَعْنِي- إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتهِ- باسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، يُقَالُ لَهُ‏:‏ هُدِيتَ، وَكُفِيت، وَوُقِيتَ، وتَنَحَّى عَنْكَ الشِّيْطان ‏"‏ قال الترمذيُّ‏:‏ حديث حسن، زاد أبو داود في روايته‏:‏ ‏"‏ فَيَقُولُ‏:‏- يَعْني الشِّيْطَانَ لِشَيْطَانٍ آخَرَ- كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِي ‏"‏ انتهى‏.‏ وروى الترمذيُّ عن أبي هريرة، قال‏:‏ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أكْثِرْ مِنْ قَوْلَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ؛ فإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ ‏"‏ انتهى‏.‏

قال المحاسبيُّ في «رعايته»‏:‏ وإِذا عزم العْبدُ في القيامِ بجميعِ حقوق اللَّه سبحانَهُ، فليرغَبْ إِليه في المَعُونَةِ مِنْ عِنْدِه على أداء حقوقه، ورعايتها، وناجاه بقَلْب راغِبٍ راهبٍ؛ أني أَنْسَى إِن لم تذكِّرني، وأعْجِزُ أُنْ لم تُقَوِّني، وأجْزَعُ إِنْ لم تصِّبرني، وعَزَم وتوكَّل، واستغاث واستعان، وتبرَّأ من الحَوْل والقوَّة إِلا بربِّه، وقطع رجاءه مِنْ نفسه، ووَجَّه رجاءه كلَّه إِلى خالقه، فإِنه سيجدُ اللَّه عزَّ وجلَّ قريباً مجيباً متفضِّلاً متحِّنناً‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» قال مالكٌ‏:‏ ينبغي لكلِّ مَنْ دَخَل منزله أنْ يقول كما قال اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏مَا شَاءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله‏}‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ‏}‏ هذا الترجِّي ب«عَسَى» يحتملُ أن يريد به في الدنيا، ويحتمل أن يريد به في الآخِرَةِ، وتمنِّي ذلك في الآخرة أشرَفُ وأذهَبُ مع الخير والصلاح، وأنْ يكونَ ذلك يرادُ به الدنيا- أذْهَبُ في نِكَاية هذا المخاطَب، و«الحُسْبان» العذاب؛ كالبردِ والصِّرِّ ونحوه، و«الصَّعيد» وجه الأرض، «والزَّلَق»‏:‏ الذي لا تثبت فيه قَدَم، يعني‏:‏ تذهب منافعها حتى منفعةُ المشْيِ فهي وَحَلٌ لا تثبُتُ فيه قَدَمٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏42‏)‏ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ‏(‏43‏)‏ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذا خبر من اللَّه عزَّ وجل عن إِحاطة العذابِ بحالِ هذا المُمَثَّل به، و‏{‏يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ‏}‏‏:‏ يريد يضَعُ بطْن إِحداهما على ظهر الأخرى، وذلك فعل المتلهِّف المتأسِّف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏}‏ يريد أن السقوف وَقَعَتْ، وهي العروش، ثم تهدَّمت الحيطانُ عليها؛ فهي خاوية والحيطان على العُرُوشِ‏.‏

* ت *‏:‏ فسرَّ * ع * رحمه اللَّه لفظ ‏{‏خَاوِيَة‏}‏ في «سورة الحَجِّ والنَّمْل» ب«خالية»، والأحسن أن تفسَّر هنا وفي الحجِّ ب«ساقطة»، وأما التي في «النْمل»، فيتَّجه أن تفسَّر ب«خالية» وب «ساقطة» قال الزبيدِيُّ في «مختصر العَيْن» خَوَتِ الدَّارُ‏:‏ باد أهلها، وخَوتْ‏:‏ تهدَّمت انتهى، وقال الْجَوْهَرِيُّ في كتابه المسمَّى ب «تاج اللُّغِة وصِحَاحِ العَرَبِيَّةِ»‏:‏ خَوَتِ النجومُ خَيًّا‏:‏ أمحَلَتْ، وذلك إِذا سقطَتْ ولم تُمْطِرْ في نَوْئِهَا، وأَخْوَتْ مثله، وخَوَتِ الدارُ خُوَاءً ممدوداً‏:‏ أقْوَتْ وكذلك إِذا سقطَتْ، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 52‏]‏ أي‏:‏ خاليةً، ويقال‏:‏ ساقطة؛ كما قال‏:‏ ‏{‏فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 45‏]‏ أي ساقطة على سقوفها‏.‏ انتهى وهو تفسيرٌ بارعٌ، وبه أقولُ، وقد تقدَّم إِيضاحُ هذا المعنى في «سورة البقرة»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا‏}‏ قال بعض المفسِّرين‏:‏ هي حكايةٌ عن مقالة هذا الكافِرِ في الآخرة، ويحتملُ أن يكون قالها في الدنيا على جهة التوبة بعد حلولِ المُصيبة، ويكون فيها زَجْرٌ لكَفَرة قريشٍ وغيرهم، «والفئة»‏:‏ الجماعة التي يُلْجأُ إِلى نَصْرها‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ‏}‏ يحتمل أنْ تكون ظرفاً لقوله‏:‏ ‏{‏مُنتَصِراً‏}‏ ويحتمل أنْ يكون ‏{‏الولاية‏}‏ مبتدأ، و‏{‏هُنَالِكَ‏}‏‏:‏ خبره، وقرأ حمزة والكسائيُّ‏:‏ «الوِلاَيَةُ- بكسر الواو-، وهي بمعنى الرِّيَاسَة ونحوه، وقرأ الباقون‏:‏ «الوَلاَيَة»- بفتح الواو- وهي بمعنى المُوَالاَة والصِّلة ونحوه، وقرأ أبو عمرو والكَسائيُّ‏:‏ «الْحَقُّ» بالرفع؛ على النعت ل«الولايةُ» وقرأ الباقون بالخفضِ على النعْتِ ل ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ عزَّ وجلَّ، وقرأ الجمهور‏:‏ «عُقُباً»- بضم العين والقاف- وقرأ حمزة وعاصم- بسكون القاف- والعُقُب والعُقْب‏:‏ بمعنى العاقبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 48‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ‏(‏45‏)‏ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ‏(‏46‏)‏ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏47‏)‏ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا‏}‏ يريد حياة الإنسان، كما أنزلناه من السماء ‏{‏فاختلط بِهِ‏}‏، أي‏:‏ فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب النماءِ، ‏{‏فَأَصْبَحَ هَشِيمًا‏}‏ أصبح عبارة عن صيرورته إِلى ذلك، و«الهَشِيم» المتفتِّت من يابس العُشْب، و‏{‏تَذْرُوهُ‏}‏ بمعنى تفرِّقه، فمعنى هذا المَثَل تشبيهُ حالِ المَرْء في حياته ومالِهِ وعزَّته وبَطَره، بالنَّبات الذي له خُضْرة ونَضْرة عن الماءِ النازل، ثم يعودُ بعد ذلك هشيماً، ويصير إِلى عُدْم، فمن كان له عَمَلٌ صالح يبقى في الآخرةِ، فهو الفَائِزُ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا‏}‏ لفظه الخبر، لكنْ معه قرينة الصِّفة للمال والبنين؛ لأنه في المَثَلِ قَبْلُ حَقَّر أمْرَ الدنيا وبيَّنه؛ فكأنه يقول‏:‏ المال والبنون زينةُ هذه الحياة الدنيا المحقَّرة، فلا تُتْبِعُوهَا نُفُوسَكُمْ، والجمهور أنَّ ‏{‏الصالحات‏}‏‏.‏ هي الكلماتُ المذكورُ فضْلُها في الأحاديث‏:‏ ‏"‏ سُبْحَانِ اللَّهِ، وَالحَمْدُ للَّهِ، ولاَ إله إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ»، وقد جاء ذلك مصرَّحاً به من لفظ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ «وَهُنَّ البَاقِيَاتُ الصَّالحَاتُ ‏"‏‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً‏}‏ أي‏:‏ صاحبها ينتظرُ الثَّواب، وينبسطُ أمله، فهو خَيْرٌ من حال ذي المَالِ والبنينَ، دون عَمَلٍ صالحٍ، وعن أبي سعيد الخدريِّ؛ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ اسْتَكْثِرُوا مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» قيلَ‏:‏ وَمَا هُنَّ، يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قالَ‏:‏» التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ والتَّسْبِيحُ وَالحَمْدُ للَّهِ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّة إِلاَّ باللَّه ‏"‏ رواه النسائيُّ وابنُ حِبَّان في «صحيحه» انتهى من «السلاح»‏.‏

وفي «صحيح مسلم» عن سَمُرة بن جُنْدُبٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أحَبُّ الكَلاَمِ إِلى اللَّهِ تَعَالى أَرْبَعٌ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إله إِلاَّ اللَّهُ، واللَّهُ أكْبُرُ لاَ يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ ‏"‏، وفي «صحيح مُسْلِم»، عن أبي مالِكٍ الأشعريِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ الطُّهوُرُ شَطْرُ الإِيمَانِ والحَمْدُ للَّهِ تَمْلأُ المِيزَانَ، وسُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ أَو تَمُلأُ مَا بَيْنَ السموات والأَرْضِ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الحديث انتهى‏.‏

قال ابن العربيِّ في «أحكامه»‏:‏ وروى مالكٌ عن سعيد بن المسيَّب، أنَّ الباقيات الصالحات قولُ العبْدِ‏:‏ اللَّهُ أكْبَرُ، وسبحانَ اللَّهِ، والحمدُ للَّهِ، ولا إِله إِلا اللَّه، ولا حَوْلَ ولاَ قوَّة إِلا باللَّه» وروي عن ابْنِ عباس وغيره؛ أن الباقياتِ الصَّالحات الصَّلواتُ الخَمْس‏.‏ انتهى‏.‏

* ت *‏:‏ وما تقدَّم أولى، ومن كلام الشيْخِ الوليِّ العارف أبي الحَسن الشَّاذِليِّ رضي اللَّه عنه قال‏:‏ عليك بالمطهرِّات الخمس في الأقوال؛ والمطهِّرات الخمس في الأفعال، والتبرِّي من الحول والقَّوة في جميع الأحوال، وغُصْ بعقلك إِلى المعاني القائمة بالقَلْب، واخرج عنها وعنه إِلى الرَّبّ واحفظِ اللَّه يحفظْك، واحفظ اللَّه تجدْهُ أمامك واعبد اللَّه بها، وكُنْ من الشاكرين، فالمطهِّراتُ الخمس في الأقوالِ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّه، والحمدُ للَّهِ، ولا إله إِلا اللَّه، واللَّهُ أَكبر، ولا حول ولا قوة إِلا باللَّه، والمطهِّراتُ الخَمْسُ في الأفعال‏:‏ الصلواتُ الخمْسُ، والتبرِّي من الحول والقوة‏:‏ هو قولُكَ‏:‏ لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلا باللَّه‏.‏

انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الأرض بَارِزَةً‏}‏‏:‏ يحتمل أن الأرض؛ لِذَهَابِ الجبال، والضِّرابِ والشَّجَرِ- بَرَزَتْ، وانكشفَتْ ويحتملُ أن يريد بُرُوزَ أهلها من بطنها للحِشَرْ، و«المغادَرة»‏:‏ الترك، ‏{‏وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفًّا‏}‏، أي‏:‏ صفوفاً وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏ يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ صُفُوفاً يُسْمِعُهُمُ الدَّاعي، ويَنْفُذُهُمُ البَصَرُ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ الحديث بطوله، وفي حديثٍ آخَرَ‏:‏ ‏"‏ أَهْلُ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِائَةٌ وعِشْرُونَ صَفًّا، أنْتُمْ مِنْهَا ثَمَانُونَ صَفًّا ‏"‏‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏‏:‏ يفسِّره قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنكُمْ تُحْشَرُونَ إِلى اللَّه حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً» ‏{‏كَمَآ بَدَأْنَا أوَّلَ خَلَقٍ نُّعِيدُهُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ‏(‏49‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ اسم جنس يراد به كُتُب النَّاس التي أحصتها الحَفَظة لواحدٍ واحدٍ، ويحتمل أن يكون الموضوع كتاباً واحداً حاضراً، وباقي الآية بيِّن‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن‏}‏ قالت فرقة‏:‏ إبليسُ لم يكُنْ من الملائكَةِ، بل هو من الجِنِّ، وهم الشياطينُ المخلوقون من مَارِجٍ من نارٍ، وجميعُ الملائكة إنما خلقوا من نورٍ، واختلَفَتْ هذه الفرقةُ، فقال بعضهم‏:‏ إِبليس من الجنِّ، وهو أولهم وبَدْأَتُهم، كآدمَ من الإِنس، وقالت فرقة‏:‏ بل كان إِبليس وقبيلُهْ جِنًّا، لكن جميع الشياطين اليَوْمَ من ذريته، فهو كُنوح في الإنس، واحتجُّوا بهذه الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَفَسَقَ‏}‏ معناه فخرج عن أمر ربِّه وطاعته‏.‏

وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ‏}‏ يريد‏:‏ أَفتَتَّخِذُونَ إِبليس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَذُرِّيَّتَهُ‏}‏‏:‏ ظاهر اللفظ يقتضي المُوَسْوِسين من الشياطين، الذين يأمْرُون بالمنْكَر، ويحملون على الأباطيل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِئْسَ للظالمين بَدَلاً‏}‏ أي‏:‏ بدل ولايةِ اللَّه عزَّ وجلَّ بولاية إِبليس وذريته، وذلك هو التعوُّض من الحقِّ بالباطلِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ‏(‏51‏)‏ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ‏(‏52‏)‏ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ الضمير في ‏{‏أَشْهَدتُّهُمْ‏}‏ عائدٌ على الكُفَّار، وعلى النَّاس بالجملة فتتضمَّن الآية الرَّدَّ على طوائف من المنجِّمِين وأهْل الطبائعِ والمتحكِّمين من الأطبَّاء، وسواهم مِنْ كل من يتخرَّص في هذه الأشياء، وقيل‏:‏ عائدٌ على ذرية إِبليس، فالآية على هذا تتضمَّن تحقيرَهُم، والقولُ الأول أعظم فائدةً، وأقول‏:‏ إنَّ الغرض أولاً بالآية هُمْ إِبليس وذريته، وبهذا الوجْه يتَّجه الردُّ على الطوائف المذكورة، وعلى الكُهَّان والعربِ المصدِّقين لهم، والمعظِّمين للجنِّ، حين يقولون‏:‏ أعُوذُ بِعَزِيز هذا الوَادِي، إِذ الجميع من هذه الفِرَقِ متعلِّقون بإِبليس وذريته، وهم أضلُّ الجميع، فهم المرادُ الأول ب ‏{‏المضلين‏}‏، وتندرج هذه الطوائفُ في معناهم، وقرأ الجمهور‏:‏ «ومَا كُنْتُ»، وقرأ أبو جعفر والجحْدَرِيُّ والحسن، بخلافٍ «وَمَا كُنْت»، «والعَضُد»‏:‏ استعارة للمعين والمؤازر، ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَاءِيَ‏}‏ أي‏:‏ على جهة الاستغاثة بهم، واختلف في قوله‏:‏ ‏{‏مَّوْبِقاً‏}‏، فقال ابن عباس‏:‏ معناه مهلكاً، وقال عبد اللَّه بن عمر وأنس بن مالك ومجاهد‏:‏ ‏{‏مَّوْبِقاً‏}‏ هو وادٍ في جهنَّم يجري بدَمٍ وصديدٍ‏.‏ قال أنس‏:‏ يحجز بين أهل النار وبَيْن المؤمنين‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَظَنُّواْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا‏}‏، أي‏:‏ مباشروها، وأطلق الناس أنَّ الظنَّ هنا بمعنى اليقين‏.‏

قال * ع *‏:‏ والعبارة بالظَّنِّ لا تجيء أبداً في موضع يقينٍ تامِّ قد قَالَهُ الحَسَن بل أعظم درجاته أن يجيء، في موضع متحقِّق، لكنه لم يقع ذلك المظْنُونُ، والاَّ فمذْ يقع ويُحَسُّ لا يكادُ توجَدُ في كلامِ العربِ العبارةُ عنه بالظَّنِّ، وتأمَّل هذه الآية، وتأمَّل كلام العرب، وروي أبو سعيد الخدريُّ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إنَّ الكَافِرَ لَيَرى جَهَنَّمَ، ويَظُنُّ أَنَّهَا مُوَاقِعَتُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ‏"‏، و«المَصْرِف»‏:‏ المَعْدِل والمَرَاغ، وهو مأخوذ من الانصرافِ من شيء إِلى شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 59‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ‏(‏54‏)‏ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ‏(‏55‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ‏(‏56‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏57‏)‏ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً‏}‏ ‏{‏الإنسان‏}‏ هنا يراد به الجنْس، وقد استعمل صلى الله عليه وسلم الآية على العمومِ في مروره بِعَلِيٍّ لَيْلاً، وأمْرِه له بالصلاة بالليل، فقال عليٌّ‏:‏ إنما أنفُسُنَا يا رَسُولِ اللَّهِ بِيَدِ اللَّهِ، أو كما قال، فخرج صلى الله عليه وسلم، وهو يضربُ فَخِذَه بيده، ويقول‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً‏}‏‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءَهُمُ الهدى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏الناس‏}‏، هنا يراد بهم كفَّار عصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم، و‏{‏سُنَّةُ الأولين‏}‏، هي عذاب الأمم المذكورة في القرآن، ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً‏}‏، أي‏:‏ مقابلةً عياناً، والمعنى‏:‏ عذاباً غير المعهود، فتظهر فائدة التقسيمِ، وقد وقَعَ ذلك بهم يَوْمَ بدرٍ، وكأنَّ حالهم تقتضي التأسُّف عليهم، وعلى ضلالهم ومصيرهم بآرائهم إِلى الخُسْران- عافانا اللَّه من ذلك-‏.‏

و ‏{‏لِيُدْحِضُواْ‏}‏ معناه‏:‏ يُزْهِقوا، «والدَّحَض»‏:‏ الطين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَن يَهْتَدُواْ إِذاً‏}‏‏:‏ لفظ عامٌّ يراد به الخاصُّ ممن حتم اللَّه عليه أنه لا يِؤمن، ولا يهتدي أبداً، كأبي جهل وغيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ‏}‏ قالت فرقة‏:‏ هو أَجَلُ الموتِ، وقالت فرقة‏:‏ هو عذاب الآخرة، وقال الطبري هو يَوْمَ بَدْرٍ والحَشْر‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً‏}‏، أي‏:‏ لا يجدون عنه منجًى، يقال‏:‏ وَأَلَ الرَّجُلُ يَئِلُ؛ إِذ نجا، ثم عقَّب سبحانه توعُّدهم بذكْر الأمثلة من القَرى التي نَزَلَ بها ما تُوُعِّدَ هؤلاء بمثله، و‏{‏القرى‏}‏‏:‏ المدن، والإِشارة إِلى عادٍ وثمود وغيرهم، وباقي الآية بيِّن‏.‏

قال * ص *‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَمَّا ظَلَمُواْ‏}‏ في ‏{‏لَمَّا ظَلَمُواْ‏}‏‏:‏ إِشعارٌ بعلَّة الإِهلاك؛ وبهذا استدلَّ ابن عُصْفُور على حرفية «لَمَّا»؛ لأن الظرف لا دلالة فيها على العِلِّيَّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى لفتاه لا أَبْرَحُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏موسى‏}‏ هو ابنُ عمرانَ، وفتاة هو يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وفي الحديث الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أن موسى عليه السلام جَلَسَ يَوْماً في مَجْلِسٍ لَبني إِسْرَائيلَ، وخَطَبَ، فأَبْلَغَ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ هَلْ تَعْلَمُ أَحَداً أَعْلَمَ مِنْكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لاَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ‏:‏ بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَبِّ، دُلَّنِي عَلَى السَّبِيلِ إِلى لقيه، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ بطُوِلِ سَيْفِ البَحْرِ، حَتَّى يَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ، فَإِذَا فَقَدَ الحُوتَ، فإِنَّهُ هُنَالِكَ، وأُمِرَ أَنْ يَتَزَوَّدَ حُوتاً، وَيَرْتَقِبَ زَوَالَهُ عَنْهُ، فَفَعَلَ مُوسى ذَلِكَ، وَقَالَ لِفَتَاهُ على جِهَةِ إِمْضَاءِ العَزِيمَةِ‏:‏ لاَ أَبْرَحُ أَسِيرُ، أي‏:‏ لاَ أَزَالُ، وإِنما قال هذه المقالَةَ، وهو سائرٌ، قال السُّهَيْليُّ‏:‏ كان موسى عليه السلام أعلَمَ بعلْمِ الظاهر، وكان الخَضِرُ أعلم بعلْم الباطنِ، وأسرارِ المَلَكُوتِ، فكانا بَحْرَيْن اجتمعا بمجْمَعِ البَحْرَيْن، والخضرُ شَرِبَ من عَيْن الحَيَاةِ، فَهوَ حَيٌّ إِلى أن يخرج الدَّجَّال، وأنَّه الرجُلُ الذي يقتله الدَّجَّال، وقال البخاريُّ وطائفة من أهْل الحديث، منهم شيخُنا أبو بَكْرِ بْنُ العَرَبيِّ رحمه اللَّه‏:‏ مات الخَضِرُ قبل انقضاء المِائَةِ من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِه، فإِنَّ إِلى رَأْسِ مِائَةِ عَامٍ مِنْهَا لا يَبْقَى عَلَى الأَرْضِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا أَحَدُ ‏"‏ يعني من كان حيًّا حين قال هذه المقالَةَ، وأما اجتماع الخِضَرِ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتعزيته لأهْل بيته، فمرويٌّ من طرقٍ صِحَاحٍ، وصحَّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال‏:‏ ‏"‏ إِنَّمَا سُمِّيَ الخَضِرَ؛ لأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خضراء ‏"‏‏.‏ قال الخطابي‏:‏ الفروة وجه الأرض، ثم أنشد على ذلك شاهداً انتهى‏.‏

واختلف الناس في «مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ»، فقال مجاهد وقتادة هو مَجْمَعُ بَحْر فارس وبَحْر الروم، وقالت فرقة ‏{‏مَجْمَعَ البحرين‏}‏‏:‏ هو عند طَنْجَة، وقيل غير هذا، واختلف في «الحُقُب»، فقال ابن عباس وغيره‏:‏ الحُقُب‏:‏ أزمانٌ غير محدودة، وقال عبد اللَّه بن عمرو ثمانون سنة، وقال مجاهد‏:‏ سبعون، وقيل‏:‏ سنةٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 74‏]‏

‏{‏فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ‏(‏61‏)‏ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ‏(‏63‏)‏ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ‏(‏64‏)‏ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ‏(‏66‏)‏ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏67‏)‏ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ‏(‏68‏)‏ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ‏(‏69‏)‏ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏70‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ‏(‏71‏)‏ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏72‏)‏ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ‏(‏73‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا‏}‏ الضمير في ‏{‏بَيْنِهِمَا‏}‏‏:‏ للبحرين، قاله مجاهد، وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏ ثُمَّ انْطَلَقَ، وانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، حَتَّى أَتيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُؤُوَسَهُما، فَنَامَا، واضْطَربَ الحُوتُ في المكتلِ، فَخَرجَ مِنْهُ فَسَقَط في البَحْرِ، واتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ سَرَباً، أي‏:‏ مسلكاً في جوفِ الماءِ، وأمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الحُوتِ جَرْيَةَ المَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ، نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخبَرَهُ بالحُوتِ، فانْطَلَقَا بَقَّيِة يَوْمِهَما، ولَيْلَتِهِما حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الغَدِ قال موسى لفتاه‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً‏}‏ ويعني ب«النصب» تعب الطريق، قال‏:‏ ولم يجدْ موسى النَّصَبَ حتَّى جاوَزَ المَكَان الذي أمره اللَّه به، قال له فتاة‏:‏ ‏{‏أَرَءَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت‏}‏، يريد‏:‏ ذكر ما جرى فيه، ‏{‏وَمَا أَنسَانِيهُ‏}‏، أي أن أذكره ‏{‏إِلاَّ الشيطان‏}‏، و‏{‏اتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَبًا‏}‏ قال‏:‏ فكان للحوتِ سَرَباً ولموسى وفتاه عَجَباً، فقال موسَى‏:‏ ‏{‏ذلك مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصًا‏}‏، قال‏:‏ فرجعا يَقُصَّان آثارهما حَتَّى انتهيا إلى الصخرة، فإِذا رجُلٌ مُسَجَّى بثوبٍ، فسَلَّم عليه موسى، فقال الخَضِرُ‏:‏ وأَنَّى بأرضِكَ السَّلاَمَ قال‏:‏ أَنَا مُوسَى، قَالَ‏:‏ مُوسَى بَنِي إِسُرَائِيلَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعْم، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَني ممَّا عُلِّمْتَ رُشْداً، ‏{‏قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً‏}‏ يعني‏:‏ لا تطيق أن تصبر على ما تراه من عملي لأن الظواهر التي هي عِلْمُكَ لا تعطيه، وكيف تُصْبِرُ على ما تراه خطأً، ولم تُخْبَرْ بوجه الحكمة فيه‏؟‏ يا موسى، إني على علْمٍ من علْمِ اللَّه، علَّمنيه لا تَعْلَمُه، يريد‏:‏ علْم الباطنِ، وأنْتَ على علْمٍ من علمِ اللَّه علَّمكه اللَّه، لا أعلمه، يريد‏:‏ علْمَ الظاهرِ، فقال له موسى‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ الله صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً‏}‏، فقال له الخضر‏:‏ ‏{‏فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً‏}‏، أي‏:‏ حتى أشرح لك ما ينبغي شرْحُه، فانطلقا يمشيَانِ على ساحل البَحْرِ، فمرت بهم سفينةٌ، فكلَّموهم أنْ يحملوهم، فعرفوا الخَضِرَ، فحملوهم بغَيْر نَوْلٍ، يقول‏:‏ بغير أجْر، فلما ركبا في السفينة، لم يُفْجَأْ موسى إِلاَّ والخَضِرُ قد قلع لَوْحاً من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى؛ قومٌ حملونا بغير نَوْلٍ، عَمِدْتَّ إلى سفينتهم، فخرقْتَها لتغرق أهلها، ‏{‏لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا‏}‏، أي شنيعاً من الأمور، وقال مجاهد‏:‏ الإِمْرُ المُنْكَر، ‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً‏}‏ قال أَبَيُّ بْنُ كعب، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فكانَتِ الأُولى مِنْ مُوسَى نِسْيَاناً، قال‏:‏ وَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ على حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ في البَحْرِ نُقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الخَضِرُ‏:‏ ما عِلْمِي وعلْمُكَ مِنْ عِلْم اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا العُصْفُورُ مِنْ هَذَا البَحْرِ»، وفي رواية‏:‏ «واللَّهِ، مَا عِلْمِي وعِلْمُكَ في جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كما أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمنْقَارِهِ من البَحْر»، وفي رواية‏:‏ «مَا عِلْمي وعِلْمُكَ وعِلْمُ الخَلاَئِقِ في عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِقْدَارُ مَا غَمَسَ هذا العُصْفُورُ منقاره»‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذا التشبيهُ فيه تجوُّز؛ إِذ لا يوجد في المحْسُوسَات أقوى في القِلَّة من نقطة بالإِضافة إلى البحر، فكأنها لا شَيْءَ، ولم يتعرَّض الخَضِرُ لتحرير موازَنَةٍ بين المِثَال وبَيْنَ عِلْم اللَّه تعالى، إِذ علمه سبحانه غير متناهٍ، ونُقَطُ البحر متناهيةٌ، ثم خَرَجَ من السفينة، فبينما هما يَمْشِيَانِ على السَّاحل، إذ أبصر الخضرُ غُلاَماً يَلْعَبُ مع الغْلمَان، فأخذ الخَضِرُ رَأْسَهُ بيده، فاقتلعه فَقَتَلَهُ، فقال له موسى‏:‏ أقتلت نفساً زاكية‏.‏

قال * ع *‏:‏ قيل‏:‏ كان هذا الغلامُ لم يبْلُغ الحُلْم، فلهذا قال موسى‏:‏ نَفْساً زاكية، وقالت فرقة‏:‏ بل كان بالغاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ نَفْسٍ‏}‏ يقتضي أنه لو كان عَنْ قَتْلِ نفْسٍ، لم يكن به بأْسٌ، وهذا يدلُّ على كِبَرِ الغلامِ، وإِلا فلو كان لم يحتلم، لم يجبْ قتله بَنَفْس ولا بغير نفْس‏.‏ * ت *‏:‏ وهذا إِذا كان شَرْعُهم كَشَرْعنا، وقد يكونُ شرعهم أنَّ النفْسَ بالنفْسِ عموماً في البالغ وغيره، وفي العَمْد والخطأ؛ فلا يلزم من الآية ما ذَكَرَ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً‏}‏ معناه‏:‏ شيئاً ينكر، قال * ع *‏:‏ ونصف القرآن بِعَدِّ الحروف‏.‏ انتهى إلى النون من قوله‏:‏ ‏{‏نُّكْراً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 82‏]‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏75‏)‏ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ‏(‏76‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ‏(‏77‏)‏ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏78‏)‏ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ‏(‏79‏)‏ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ‏(‏80‏)‏ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ‏(‏81‏)‏ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً‏}‏ قال‏:‏ وهذه أشدُّ من الأولى- ‏{‏قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعما أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ‏}‏، قال‏:‏ مائل، فقال الخَضِرُ بيده هكذا، فأقامه، فقال موسى‏:‏ قومٌ أتيناهم، فلم يُطْعِمُونا، ولم يضيِّفونا ‏{‏لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً‏}‏ قال سعيدُ بنُ جُبَيْر‏:‏ أجراً نأكله- «قال هذا فراق بيني وبينك» إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ذلك تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً‏}‏، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرَهِمَا» قال سعيد‏:‏ فكان ابن عباس يَقْرأُ‏:‏ «وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ ‏[‏صَالِحَةِ‏]‏ غَضْباً»، وكان يقرأ‏:‏ «وأَمَّا الغُلاَمُ ‏[‏فَكَانَ كَافِراً‏]‏ وكَانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ»، وفي رواية للبخاريِّ‏:‏ يزعمون عن غَيْر سعيدِ بْنِ جُبَيْر؛ أنَّ اسم المَلِكِ‏:‏ هُدَدُ بْنُ بُدَدٍ، والغلام المقتولُ اسمه يزعمون حَيْسُورُ، ويقال‏:‏ جَيْسُورَ مَلِكٌ ‏{‏يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً‏}‏، فأردتُّ إِذا هِيَ مَرَّتْ به أنْ يَدَعَها لِعَيْبها، فإِذا جَاوَزُوا أصْلَحُوها، فانتفعوا بها، ومنهم من يقول‏:‏ سَدُّوها بقَارُورة، ومنهم من يقول بالقَارِ، ‏{‏فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ‏}‏، وكان كافراً، ‏{‏فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طغيانا وَكُفْراً‏}‏ أنْ يحملهما حبُّه على أنْ يتابعاه على دينه، ‏{‏فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زكواة‏}‏ لقوله‏:‏ «أقتلْتَ نفساً زاكية»، ‏{‏وَأَقْرَبَ رُحْماً‏}‏ هما به أرحم منهما بالأول الذي قتله خَضِر، وزعم غير سعيد أنهما أُبْدلا جاريةً، وأما داوُدُ بن أبي عاصِمٍ، فقال عن غير واحدٍ‏:‏ إنها جاريةٌ‏.‏ انتهى لفظُ البخاريِّ‏.‏

* ت *‏:‏ وقد تحرَّينا في هذا المختصر بحَمْد اللَّه التحقيقَ فيما علَّقناه جُهْد الاستطاعة، واللَّه المستعان، وهو المسؤول أن ينفع به بجُوده وكَرَمِهِ‏.‏ قال * ع *‏:‏ ويشبه أنْ تكون هذه القصَّة أيضاً أصلاً للآجالِ في الأحكام التي هي ثَلاَثَةٌ، وأيام التلوم ثلاثةٌ، فتأمَّله‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا‏}‏ وفي الحديث‏:‏ «أَنَّهُمَا كَانَا يَمْشِيَانِ عَلَى مَجَالِسِ أُولَئِكَ القَومِ يَسْتَطْعمَانِهِمْ»‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذه عبرة مصرِّحة بهوان الدنيا على اللَّه عزَّ وجلَّ‏.‏ * ص *‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فِرَاقُ بَيْنِي‏}‏ الجمهور بإِضافة «فِرَاق»، أبو البقاء، أي تفريقُ وَصْلِنا، وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ «فِراقٌ» بالتنوين، أبو البقاء و«بَيْنَ»‏:‏ منصوبٌ على الظرفِ انتهى‏.‏

قال * ع *‏:‏ و‏{‏وَرَاءَهُم‏}‏ هو عندي على بابه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعًى بها الزمانُ، وذلك أنَّ الحادث المقدَّم الوُجُودِ هو الأمامُ، والذي يأتي بَعْدُ هو الوَرَاء، وتأمَّل هذه الألفاظ في مواضِعِها حيْثُ وردَتْ تجدها تَطَّرد، ومِن قرأ‏:‏ «أَمامَهُمْ»، أراد في المكان‏.‏

قال * ع *‏:‏ وفي الحديث، «أنَّ هَذَا الغُلاَمَ طُبِعَ يَوْمَ طُبعَ كافِراً»، والضمير في «خشينا» للخضِرِ، قال الداوديُّ‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا‏}‏، أي‏:‏ علمنا انتهى‏.‏ «والزَكَاةُ» شرف الخُلُق والوقارُ والسكينةُ المنطويةُ على خَيْرٍ ونيَّة، «والرُّحْم» الرحمة، وروي عن ابن جُرَيْج، أنهما بُدِّلا غلاماً مسْلِماً، وروي عنه أنهما بُدِّلا جاريةً، وحكى النَّقَّاش أنها وَلَدَتْ هي وَذُرِّيَّتُها سبعين نبيًّا، وذكره المهدويُّ عن ابن عباس، وهذا بعيدٌ، ولا تُعْرَف كثرة الأنبياءِ إِلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكُنْ فيهم، واختلف النَّاسُ في هذا الكنز المذكور هنا، فقال ابن عباس‏:‏ كان عِلْماً في صُحُف مدفونةٍ، وقال عمر مولى غَفْرَة‏:‏ كان لَوْحاً من ذَهَبٍ قد كُتِبَ فيه‏:‏ «عجباً للموقِنِ بالرِّزْقِ كيف يَتْعَبُ، وعجباً للموقِنِ بالحسابِ كيف يَغْفَلُ، وعجباً للموقِنِ بالمَوْتِ كيف يَفُرَحُ»، وروي نحو هذا مما هو في معناه، وقال الداووديُّ‏:‏ ‏{‏كَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا‏}‏، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ذَهَبٌ وفِضَّة» انتهى، فإِن صحَّ هذا الحديثُ، فلا نظر لأحَدٍ معه، فاللَّه أعلم أيَّ ذلك كَانَ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا‏}‏ ظاهر اللفظِ، والسابقُ منه إِلى الذهنِ أنه والدهما دِنْيَةً، وقيل‏:‏ هو الأب السابعُ، وقيل‏:‏ العاشر، فَحُفِظَا فيه، وفي الحديثِ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُ الرَّجُلَ الصَّالِحَ في ذُريتِهِ ‏"‏، وقوله الخضر‏:‏ ‏{‏وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي‏}‏، يقتضي أنه نَبِيٌّ، وقد اختلف فيه، فقيل‏:‏ هو نبيٌّ، وقيل‏:‏ عَبْدٌ صالح، وليس بنبيٍّ؛ وكذلك اختلف في موته وحياته، واللَّه أعلم بجميع ذلك، ومما يقضي بموت الخَضِر قوُلُه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ إِلى رَأْسِ مِائَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ اليَوْمَ على ظَهْرِ الأَرضِ أحد ‏"‏‏.‏ قال القرطبيُّ في «تذكرته»‏:‏ وذكر عن عمرو بن دِينَارٍ‏:‏ الخَضِرُ وإِلياسُ عليهما السلام حَيَّانِ، فإِذا رفع القرآن ماتا قال القرطبيُّ‏:‏ وهذا هو الصحيحُ انتهى، وحكاياتُ مَنْ رأَى الخَضِرَ من الأولياء لا تحصَى كثرةٍ فلا نطيلُ بَسْردها، وانظر «لطائِفَ المِنَن» لابن عطاء اللَّه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك تَأْوِيلُ‏}‏‏:‏ أي مآل، وحكى السُّهَيْليُّ أنه لما حان للخَضِر وموسى أن يفترقا، قال له الخَضر‏:‏ لو صَبَرْتَ، لأَتَيْتَ عَلَى أَلْفِ عَجَبٍ، كلُّها أعجبُ ممَّا رأَيْتَ، فبكى موسى، وقالَ للخَضِر‏:‏ أوْصِنِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فقال‏:‏ يا مُوسَى، اجْعَلْ همَّك في معادِكَ، ولا تَخُضْ فيما لا يَعْنِيك، ولا تأمَنْ مِنَ الخوفِ في أمْنِكَ، ولا تَيْئَس من الأمن في خوفك، وتدَّبر الأمورَ في علانيتِكَ، ولا تَذَر الإحسانَ في قُدْرتك، فقال له موسى‏:‏ زِدْنِي يرحمك اللَّه، فقال له الخَضِر‏:‏ يا مَوسَى، إِياكَ واللَّجَاجَةُ، ولا تَمْش في غير حَاجَةٍ، ولا تَضْحَكْ من غَيْر عَجَبٍ، ولا تعير أحداً، وابكِ على خطيئتك يَا بْنَ عِمران‏.‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 92‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏83‏)‏ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ‏(‏84‏)‏ فَأَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏85‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ‏(‏86‏)‏ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏87‏)‏ وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ‏(‏88‏)‏ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏89‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ‏(‏90‏)‏ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ‏(‏91‏)‏ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏92‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين‏}‏ «ذو القرنين»، هو المَلِكُ الإسْكَنْدَرُ اليُونَانِيُّ، واختلف في وَجْه تسميته ب «ذي القَرْنَيْنِ» وأحسنُ ما قيل فيه‏:‏ أنه كان ذا صنفِيرَتين، من شَعْرهما قرناه، والتمكينُ له في الأرض‏:‏ أنه مَلَكَ الدنيا، ودانَتْ له الملوك كلها، وروي أن جميع من مَلَكَ الدنيا كلَّها أربعَةٌ، مُؤْمِنَانِ وكافران؛ فالمُؤْمِنَانِ‏:‏ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام، والإسْكَنْدَرُ، والكافِرَانِ‏:‏ نُمْرُود، وبُخْتَ نَصَّرَ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وآتيناه مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً‏}‏ معناه‏:‏ علْماً في كل أمْرٍ، وأقيسةً يتوصَّل بها إِلى معرفة الأشياء، وقوله‏:‏ ‏{‏كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ عمومٌ معناه الخصوص في كلِّ ما يمكنه أنْ يعلمه ويحتاجُ إلَيْه، وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعَ سَبَباً‏}‏، أي‏:‏ طريقاً مسلوكةً، وقرأ نافع وابن كثير‏:‏ وحفص عن عاصم‏:‏ «في عَيْنٍ حِمِئَة»، أي‏:‏ ذاتِ حَمْأة، وقرأ الباقون‏:‏ «في عَيْنٍ حَامِيَةٍ»، أي‏:‏ حارَّة، وذهب الطبريُّ إلى الجمع بين الأمرين، فقال‏:‏ يحتملُ أن تكون العين حارَّة ذاتَ حَمْأة؛ واستدلَّ بعضُ الناس على أن ذا القرنَيْن نبيٌّ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْنَا ياذا القرنين‏}‏، ومن قال‏:‏ إنه ليس بنبيٍّ، قال كانت هذه المقالةُ مِنَ اللَّهِ له بإِلهامِ‏.‏

قال * ع *‏:‏ والقول بأنه نبيٌّ ضعيفٌ، و‏{‏إِمَّا أَن تُعَذِّبَ‏}‏ معناه‏:‏ بالقَتْلِ على الكُفْر، ‏{‏وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً‏}‏، أي‏:‏ إِن آمنوا، وذهب الطبري إِلى أنَّ اتخاذه الحُسْن هو الأسْرُ مع كُفْرهم، ويحتمل أنْ يكون الاتخاذ ضَرْبَ الجزية، ولكنْ تقسيم ذي القرنين بعد هذا الأمْر إِلى كفر وإيمان يردُّ هذا القوْلَ بعْضَ الردِّ، و‏{‏ظَلَمَ‏}‏؛ في هذه الآية‏:‏ بمعنى كَفَر، وقوله‏:‏ ‏{‏عَذَاباً نُّكْراً‏}‏، أي‏:‏ تنكره الأوهام، لِعَظَمِهِ، وتستهوله، و‏{‏الحسنى‏}‏ يراد بها الجَنَّة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً‏}‏ المعنى‏:‏ ثم سلك ذو القرنين الطُّرُق المؤدِّية إِلى مَقْصِده، وكان ذو القرنَيْن، على ما وقع في كُتُب التاريخ يَدُوسُ الأرض بالجيوشِ الثِّقَال، والسِّيرةِ الحميدةِ، والحَزْمِ المستيقِظِ، والتأبِيدِ المتواصِلِ، وتقوى اللَّه عزَّ وجلَّ، فما لقي أُمَّةً، ولامَرَّ بمدينةٍ إِلا ذَلَّتْ ودَخَلَتْ في طاعته، وكُلُّ من عارضه أوْ توقَّف عن أمْره، جعله عظةً وآيةً لغيره، وله في هذا المعنى أخبارٌ كثيرةٌ وغرائبُ، مَحَلُّ ذكرها كُتُبُ التاريخ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ‏}‏ المراد ب«القوم» الزَّنْج، قاله قتادة، وهم الهنود وما وراءهم، وقال الناس في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً‏}‏ معناه‏:‏ أنهم ليس لهم بنيانٌ، إِذ لا تحتمل أرضهم البناءَ وإِنما يدخلون مِنْ حَرِّ الشمس في أسْرَابٍ، وقيل‏:‏ يدخلون في مَاءِ البَحْر؛ قاله الحسن وغيره، وأكْثَرَ المفسِّرون في هذا المعنى، والظاهر من اللفظ أنها عبارة بَلِيغَةٌ عن قُرْب الشمس منهم، ولو كان لهم أسرابٌ تغني لكان سِتْراً كثيفاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ معناه‏:‏ فَعَلَ معهم كَفِعْله مع الأولين أهْلِ المَغْرب، فأوجز بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 95‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ‏(‏93‏)‏ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ‏(‏94‏)‏ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ‏(‏95‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ «السَّدَّان»، فيما ذكر أهل التفسير‏:‏ جبلان سَدَّا مسالك تلك الناحية، وبَيْنَ طَرَفيِ الجبلين فَتْحٌ هو موضع الرَّدْم، وهذان الجَبَلان في طَرَفِ الأرضِ ممَّا يلي المَشْرِق، ويظهر من ألفاظ التواريخُ؛ أنهما إلى ناحية الشمال‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً‏}‏‏:‏ قال السُّهَيْليُّ‏:‏ هم أهل جابلَص، ويقال لها بالسُّرْيانية «جَرْجيسَا» يسكنها قومٌ مِنْ نَسْل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ‏}‏ هم‏:‏ أهلُ جابَلَقَ، وهم من نسل مؤمني قوم عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لها بالسُّرْيانيَّة‏:‏ «مَرْقِيِسيَا» ولكل واحدةٍ من المديَنتْينِ عَشَرة آلاف بابٍ، بين كلِّ بابين فرسَخٌ، ومر بهم نبُّينا محمَّد صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإسراء، فدعاهم، فأجابوه، وآمنوا به، ودعا من ورائهم من الأمم، فلم يجيبوه في حديثٍ طويلٍ رواه الطبريُّ عن مقاتل بن حَيَّان، عن عكرمة عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، واللَّه أعلم‏.‏ انتهى، واللَّه أعلم بصَّحته‏.‏

و ‏{‏يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ‏}‏‏:‏ قبيلان من بني آدم، لكنَّهم ينقسمون أنواعاً كثيرةً، اختلف الناس في عددها، واختلف في إفسادهم الذي وصَفُوهم به، فقيل‏:‏ أكْلُ بَني آدم، وقالت فرقة‏:‏ إفسادهم‏:‏ هو الظُّلْم والغَشْم وسائرُ وجوه الإِفساد المعلومِ من البَشَر، وهذا أظهر الأقوال، وقولهم‏:‏ ‏{‏فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً‏}‏‏:‏ استفهامٌ على جهة حُسْن الأدبِ، «والخْرجُ»‏:‏ المُجْبَى، وهو الخراج، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي‏:‏ «خَرَاجاً»، وروي في أمر يأجوج ومأجوج أنَّ أرزاقهم هِيَ من التِّنِّينِ يُمْطَرُونَ به، ونحو هذا مما لم يَصِحَّ، وروي أيضاً أنَّ الذَّكَر منهم لا يَمُوتُ حتى يولَدَ له ألْفٌ والأنثى كذلك، وروي أنهم يتسافَدُونَ في الطُّرُق كالبهائِمِ، وأخبارُهُم تضيقُ بها الصُّحُف، فاختصرْتُ ذلك؛ لعَدَمِ صحَّته‏.‏

* ت *‏:‏ والذي يصحُّ من ذلك كثْرَةُ عددهم على الجُمْلة، على ما هو معلوم من حديثِ‏:‏ «أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ» وغيره من الأحاديث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ‏}‏ المعنى‏:‏ قال لهم ذُو القَرْنَيْنِ‏:‏ ما بسطه اللَّه لي من القُدْرة والمُلْك خَيْرٌ من خَرَاجكم، ولكن أعينوني بُقَّوة الأبدان، وهذا من تأييد اللَّه تعالى له، فإِنه تهَدَّى في هذه المحاورة إِلى الأنفع الأَنْزَه، فإِنَّ القوم لو جمعوا له الخَرَاجَ الذي هو المالُ، لم يُعِنْهُ منهم أحدٌ، ولَوَكَّلُوه إلى البنيان، ومعونَتُهم بالقوَّة أجْمَلُ به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 99‏]‏

‏{‏آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ‏(‏96‏)‏ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ‏(‏97‏)‏ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ‏(‏98‏)‏ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ‏(‏99‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏آتُونِي زُبَرَ الحديد‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية قرأ حمزة وغيره‏:‏ «ائْتُوني» بمعنى «جيئوني»، وقرأ نافع وغيره‏:‏ «آتوني» بمعنى «أعْطُوني»، وهذا كله إِنما هو استدعاءُ المناولة، وإِعمالُ القوَّة «والزُّبَر» جمع زُبْرة، وهي القطعة العظيمة منه، والمعنى‏:‏ فرَصَفَه وبنَاه ‏{‏حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين‏}‏، وهما الجبلان، وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ انفخوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية إلى آخر الآية، معناه‏:‏ أنه كان يأمر بوَضْع طاقة من الزُّبَر والحجارةِ، ثم يوقد عليها حَتَّى تحمَى ثم يؤتَى بالنُّحَاس المُذَاب أو بالرصاص أو بالحديد؛ بحسب الخلافِ في «القِطْر»، فيفرغه على تلك الطاقة المنضَّدة، فإِذا التأم واشتدَّ، استأنَفَ رَصْفَ طاقةٍ أخرى إلى أن استوَى العَمَلُ، وقال أكثر المفسِّرين‏:‏ «القِطْر»‏:‏ النُّحَاس المُذَابُ، ويؤيِّد هذا ما روي ‏"‏ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّه، إِنِّي رَأَيْتُ سَدَّ يُأْجُوجُ ومَأْجُوجَ، فَقَالَ‏:‏ كَيْفَ رَأْيْتَهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ رَأَيْتُهُ كَالبُرُدِ المُحَبَّر؛ طَريقَةٌ صَفْرَاءُ، وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ، وطَرِيقَةُ سَوْدَاءُ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم «قَدْ رَأَيْتَهُ» ‏"‏ و‏{‏يَظْهَرُوهُ‏}‏ ومعناه‏:‏ يعلونه بُصعُودٍ فيه؛ ومنه قوله في «الموطَّإ»، «والشَّمْسُ في حجرِتها قَبْل أَنْ تَظْهَرَ»، ‏{‏وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْبًا‏}‏ لبُعْد عَرْضه وقوَّته، ولا سبِيلَ سَوى هذين‏:‏ إما ارتقاءٌ، وإِما نَقْب، وروي أن في طُولَه ما بَيْنَ طرفَيِ الجبلَيْنِ مِائَة فَرْسَخِ، وفي عَرْضه خمسينَ فرسخاً، وروي غير هذا مما لم نَقِفْ على صحَّته، فاختصرناه، إِذ لا غاية للتخرُّص؛ وقوله في الآية ‏{‏انفخوا‏}‏ يريد بالأَكْيَار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي‏}‏ القائل ذو القرنين، وأشار ب ‏{‏هذا‏}‏ إِلى الرَّدْمِ والقوةِ عليه، والانتفاعِ به، والوعدُ يحتملُ أنْ يريد به القيامة، ويحتمل أن يريد به وقْتَ خروجِ يأجُوجَ ومأجوج، وقرأ نافع وغيره‏:‏ «دَكًّا» مصدر «دَكَّ يَدُكُ»، إِذا هدم ورض، ونَاقةٌ دَكَّاء لا سَنَام لها، والضمير في ‏{‏تَرَكْنَا‏}‏ للَّه عزَّ وجلَّ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ يحتمل أنْ يريد به يوم القيامة، ويحتمل أنْ يريد به يَوْمَ كمالِ السَّدِّ، والضميرُ في قوله‏:‏ ‏{‏بَعْضَهُمْ‏}‏ على هذا ليأجوجَ ومأجُوجَ، واستعارة المَوْج لهم عبارةٌ عن الحَيْرة، وتردُّدِ بعضهم في بَعْضٍ، كالمُوَلَّهينَ مِنْ هَمٍّ وخوفٍ ونحوه، فشبَّههم بموجِ البَحْر الذي يضطرب بعضُه في بعض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصور‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخر الآية‏:‏ يعني به يومَ القيامة بلا احتمالٍ لغيره، ‏{‏الصور‏}‏ في قول الجمهور وظاهر الأحاديثِ الصِّحَاحِ‏:‏ هو القَرْنُ الذي يَنْفُخُ فيه إِسرافيلُ للقيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 106‏]‏

‏{‏وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ‏(‏100‏)‏ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ‏(‏101‏)‏ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا ‏(‏102‏)‏ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ‏(‏103‏)‏ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ‏(‏104‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ‏(‏105‏)‏ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ للكافرين عَرْضاً‏}‏ معناه أبرزناها لَهُمْ؛ لتجمعهم وتحطِّمهم، ثم أكَّد بالمصدر عبارةً عن شدَّة الحال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَعْيُنُهُمْ‏}‏ كنايةٌ عن البصائر، والمعنى‏:‏ الذين كانَتْ فِكَرُهم بينها، وبَيْن ذكري والنَّظَرِ في شَرْعِي حجابٌ، وعليها غطاءٌ ‏{‏وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً‏}‏ يريد لإِعراضهم ونِفارهم عن دعوة الحق، وقرأ الجمهور، «أفَحِسِبَ الَّذِين كَفَرُوا»- بكسر السين- بمعنى «أظَنُّوا» وقرأ علي بن أبي طالب وغيره وابنُ كَثِير، بخلافٍ عنه‏:‏ «أَفَحَسْبُ» بسكون السين وضمِّ الباء، بمعنى «أَكافِيهِمْ ومنتهى غرضهم»، وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ «أَفَظَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» وهذه حجة لقراءة الجمهور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي‏}‏ قال جمهور المفسِّرين‏:‏ يريد كلَّ مَنْ عُبِدَ من دون اللَّه؛ كالملائكة وعُزَيزٍ وعيسى، والمعنى‏:‏ أن الأمر ليس كما ظَنُّوا، بل ليس لهم من ولاية هؤلاءِ المذكُورين شَيْءٌ، ولا يجدون عندهم منتفعاً و‏{‏أَعْتَدْنَا‏}‏ معناه‏:‏ يَسَّرنا، و«النُّزُل» موضع النزول، و«النُّزُل» أيضاً‏:‏ ما يُقدَّم للضْيفِ أو القادم من الطَّعام عند نزوله، ويحتملُ أنْ يريد بالآية هذا المعنى‏:‏ أنَّ المعدَّ لهؤلاء بَدَلَ النُّزُلِ جهنَّم، والآية تحتملُ الوجهِينِ، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أعمالا‏}‏ الآية‏:‏ المعنى قل لهؤلاء الكفرة؛ على جهة التوبيخ‏:‏ هل نخبركم بالذين خَسِرَ عَمَلُهم، وضَلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم مع ذلك يظنُّون أنهم يحسنون فيما يصنعوه، فإِذا طلبوا ذلك، فقل لهم‏:‏ ‏{‏أولئك الذين كَفَرُواْ بآيات رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ‏}‏، وعن سعد بن أبي وقَّاص في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏}‏ قال‏:‏ هُمْ عُبَّاد اليهودِ والنصارى، وأهْلُ الصوامع والدِّياراتِ وعن عَلِيٍّ‏:‏ هم الخوارجُ؛ ويضعِّف هذا كلَّه قولُهُ تعالى بعْدَ ذلك‏:‏ ‏{‏أولئك الذين كَفَرُواْ بآيات رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ‏}‏، وليس هذه الطوائف ممن يكفر باللَّه ولقائه، وإِنما هذه صفة مشركي عَبَدَةِ الأوثان، وعليٌّ وسعْدٌ رضي اللَّه عنهما، ذكَرا قوماً أَخَذُوا بحظِّهم من صدر الآية‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً‏}‏ يريد أنهم لا حسنَةَ لهم تُوزَنْ؛ لأن أعمالهم قد حَبِطَتْ، أي‏:‏ بَطَلَتْ، ويحتمل المجاز والاستعارة، كأنه قال‏:‏ فلا قَدْرَ لهم عندنا يومئذ، وهذا معنى الآية عنْدي، وروى أبو هريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ يُؤَتَى بالأكُولِ الشَّرُوبِ الطَّوِيل فَلاَ يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ثم قَرَأَ‏:‏ ‏{‏فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً‏}‏ ‏"‏‏.‏ وقوله ذلك اشارة الى ترك إقامة الوزن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 108‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ‏(‏107‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ‏(‏108‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس‏}‏‏:‏ اختلف المفسِّرون في «الفِرْدَوسِ» فقال قتادة‏:‏ إِنه أعلى الجَنَّةَ وَرَبْوتها، وقال أبو هريرة‏:‏ إِنه جَبَلٌ تتفجَّر منه أنهارُ الجَنَّة، وقال أبو أُمَامَةِ‏:‏ إِنه سُرَّة الجنة ووسطها، وروى أبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ، أنه تتفجَّر منه أنهار الجَنَّة، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فاسألوه الفِرْدَوْس ‏"‏‏.‏ * ت *‏:‏ ففي «البخاريِّ» من حديث أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ في الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أعَدَّهَا اللَّهُ لِلمُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ اللَّه، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْن كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فاسْأَلُوَهُ الفِرْدَوُسَ؛ فإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرحمن، ومِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ ‏"‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً‏}‏ «الحِوَلُ» بمعنى المتحوَّل‏.‏

قال مجاهدٌ‏:‏ متحوَّلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

وأما قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبِّي‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ فروي أن سبب الآية أنَّ اليهود قالَتْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ كَيْفَ تَزْعُمُ أنَّكَ نَبِيُّ الأُمَمِ كُلَّها وأنَّكَ أُعُطِيتَ مَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ مِنَ الْعِلْمِ، وأَنْتَ مُقَصِّرٌ، قَدْ سُئِلْتَ عَنْ الرُّوحِ، فَلَمْ تُجِبْ فيهِ‏؟‏، ونحو هذا من القول؛ فأنزل اللَّه الآية مُعْلِمَةً باتساع معلوماتِ اللَّه عزَّ وجلَّ، وأنها غير رمتناهية، وأن الوقوف دونها ليس ببدْعٍ، فالمعنى‏:‏ لو كان البحْرُ مداداً تكتب به معلوماته تعالى، لنَفِدَ قبل أنْ يستوفيها، «وكلمات ربِّي» هي المعاني القائمة بالنَّفْس، وهي المعلوماتُ، ومعلوماتُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لا تتناهى والبحر متناهٍ ضرورةً، وذكر الغَزَّالِيُّ في آخر «المنهاج» أن المفسِّرين يقولون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبِّي‏}‏، أن هذه هي الكلماتُ التي يقولُ اللَّه عزَّ وجلَّ لأهْلِ الجَنَّةِ في الجَنَّة باللُّطْفِ والإِكرام، مما لا تكيِّفه الأوهام، ولا يِحُيطُ به عِلْمُ مخْلوقِ، وحُقَّ أنْ يكون ذلك كذلك، وهو عطِاءُ العزيز العليم؛ على مقتضى الفَضْل العظيم، والجود الكريمِ، أَلاَ لِمِثْلِ هذا فليعملِ العَامِلُونَ‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مَدَداً‏}‏، أي زيادة‏.‏ * ت *‏:‏ وكذا فسَّره الهَرَوِيُّ ولفظه‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً‏}‏، أي زيادة انتهى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أنا بشرٌ ينتهي علْمي إلى حيثُ يوحى إِليَّ، ومهم ما يوحَى إِليَّ ‏{‏أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا‏}‏ وباقي الآية بيِّن في الشرك باللَّه تعالى، وقال ابن جُبَيْر في تفسيرها لا يرائي في عمله، وقد ورد حديثٌ أنها نزلَتْ في الرياء‏.‏

* ت *‏:‏ وروى ابن المبارك في «رقائقه»، قال‏:‏ أخبرنا عبد الرحمن بن زَيْد بن أسْلَمُ، عن أبيه، أنه كَانَ يَصِفُ أمْرَ الرياء، فيقول‏:‏ ما كَانَ مِنْ نَفْسِكَ فَرَضِيَتْهُ نَفْسُكَ لها، فإِنه مِنْ نَفْسِكَ فعاتْبها، وما كان مِنْ نَفْسِك، فكرهَتْه نَفْسُك لها، فإنه من الشيطان؛ فتعوَّذْ باللَّه منه، وكان أبو حَازِمٍ يقول ذلك، وأسند ابنُ المبارك عن عبْدِ الرحمن بنِ أبي أُمَيَّة، قال‏:‏ كُلُّ ما كَرِهَه العَبْد فليس منْه انتهى، وخرَّج الترمذيُّ عن أبي سعيد بْنِ أبي فَضَالَة الأنصاريِّ، وكان من الصحابة، قال‏:‏ سَمِعْتُ رسَولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ إِذَا جَمَعَ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ‏:‏ مَنْ كَانَ أشْرَكَ فِي عَمِلَهُ للَّهِ أحَداً، فَلْيَطْلُبْ ثَوابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّركَاءِ عَنِ الشِّرْكِ ‏"‏، قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ انتهى، وقد خرَّج مسلم معناه * ت *‏:‏ ومما جَّربته، وصحَّ من خواصِّ هذه السورة، أنَّ من أراد أن يستيقظ أيَّ وقتٍ شاء من الليل، فليقرأ عند نومه قولَهُ سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبَ الذين كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلى آخر السورة، فإنه يستيقظُ بإِذن اللَّه في الوقْت الذي نَوَاهُ، ولتكُنْ قراءته عند آخر ما يَغْلِبُ عليه النُّعَاس؛ بحيث لا يتجدَّد له عقب القراءة خواطِرُ، هذا مما لا شَكَّ فيه، وهو من عجائب القرآن المقطوعِ بها، واللَّه الموفِّق بفضله‏.‏

تنبيهٌ‏:‏ رُوِّينا في «صحيح مسلم»، عن جابر رضي اللَّه عنه قال‏:‏ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ في اللَّيلِ لسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلَ اللَّهَ خَيْراً مِنْ أَمْر الدُّنْيَا والآخِرَةِ إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ‏"‏، وذلِكَ كُلَّ لَيَلةٍ، فإِن أردتَّ أن تعرف هذه الساعة، فاقرأْ عند نومك مِنْ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس‏}‏ إلى آخر السورة، فإِنك تستيقظ في تلك الساعة- إن شاء اللَّه تعالى- بفضله، ويتكرَّر تَيَقُّظَكَ، ومهما استيقظْتَ، فادْعُ لي ولك، وهذا مما ألهمنيه اللَّهُ سبحانه، فاستفِدْه، وما كتبته إلاّ بَعْدَ استخارة، وإِياك أن تدعُوَ هنا على مُسْلِمٍ، ولو كان ظالماً، فإن خالفتَني، فاللَّه حَسِيبُكَ وبَيْن يديه أكونُ خصيمَكَ، وأنا أرغَبُ إِليك أنْ تشركني في دعائِكَ، إِذ أفدتُّكَ هذه الفائدةَ العظيمةَ وكُنْتُ شيخَكَ فيها، وللقرآن العظيم أسرارٌ يُطْلِعُ اللَّه عليها من يشاء مِنْ أوليائه، جَعَلَنَا اللَّه منْهم بفَضْله، وصلَّى اللَّه على سيدنا محمَّد وعلى آله وصَحْبِهِ وسلَّم تسليماً‏.‏